جمود مفاوضات غزة- شروط إسرائيلية واستمرار الحرب رغبة نتنياهو

في الأسابيع القليلة الماضية، انطلقت جهود حثيثة ومساعٍ جادة لاستئناف المفاوضات المتوقفة بين حركة حماس والكيان الإسرائيلي، وذلك بعد تنصّل نتنياهو من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه في 17 يناير/كانون الثاني الماضي. قام نتنياهو بتطوير رؤيته لوقف العدوان على غزة، مقترحًا شروطًا جديدة، تتضمّن تسليم الأسرى، ونزع سلاح المقاومة، وإعادة انتشار جيش الاحتلال داخل القطاع، بالإضافة إلى إعادة صياغة مستقبل القطاع بما يتماشى مع هذه الشروط، وهو ما قد يمهد الطريق أمام استدامة الاحتلال وتنفيذ مخطط التهجير.
في مواجهة هذا السيل من الشروط الإسرائيلية التي تعجيزية، بادرت حركة حماس بتقديم اقتراح "الرزمة الشاملة"، والذي يهدف إلى إطلاق سراح جميع الأسرى دفعة واحدة، مقابل وقف إطلاق نار دائم، وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من القطاع، وفتح المعابر لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية وبدء عملية إعادة الإعمار، مع الموافقة على تشكيل لجنة تكنوقراط فلسطينية لإدارة شؤون القطاع، وذلك وفقًا للمقترح المصري.
مساعي دؤوبة لإنعاش المفاوضات المتعثرة
انطلقت حركة حماس، ممثلة بمجلسها القيادي برئاسة محمد درويش، في سلسلة من الزيارات المكوكية واللقاءات الهامة في كل من الدوحة وأنقرة والقاهرة، وذلك في محاولة جادة لدفع عجلة المفاوضات استنادًا إلى مقترح "الرزمة الشاملة"، الذي ينسجم مع رغبة غالبية الرأي العام الإسرائيلي، ويتماشى كذلك مع رؤية الإدارة الأمريكية، والتي عبّر عنها بوضوح المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون الأسرى، السيد آدم بولر.
وقد أثمرت هذه الجهود السياسية التي بذلتها الحركة، عن مناقشة رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، لملف مفاوضات وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات إلى غزة، وذلك خلال زيارته إلى واشنطن، حيث التقى بوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، ومبعوث ترامب السيد ستيف ويتكوف.
وبالتوازي مع ذلك، بذلت أنقرة جهودًا مضنية من خلال اتصالاتها المباشرة مع الإدارة الأمريكية، للضغط من أجل تسريع إدخال المساعدات الإنسانية وتحريك المياه الراكدة في مسار المفاوضات. وبعد أيام قليلة، صرّح الرئيس ترامب علنًا بأنه أجرى اتصالًا هاتفيًا مع نتنياهو، وطلب منه السماح بإدخال المساعدات والأدوية إلى قطاع غزة.
وفي هذا الإطار، اتخذ نتنياهو خطوتين متزامنتين:
1- بحث مسألة إدخال المساعدات مع حكومته بناءً على طلب الرئيس الأميركي:
وقد شهدت نقاشات الحكومة الإسرائيلية تباينًا في الآراء؛ حيث اقترح الفريق الأول أن يتولى الجيش الإسرائيلي بنفسه عملية توزيع المساعدات، وهو الرأي الذي تبناه وزير المالية سموتريتش بهدف توريط الجيش في إدارة غزة مستقبلًا. أما الفريق الثاني، فقد تمحور حول فكرة إيجاد طرف ثالث (شركة أمريكية) تعمل تحت إشراف الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وتتولى توزيع المساعدات في محور موراغ، الذي يفصل بين رفح وخان يونس.
بالإضافة إلى ذلك، تتردد أفكار حول تحويل مدينة رفح إلى منطقة خيام لإيواء النازحين، تحت السيطرة المباشرة للجيش الإسرائيلي، وهي المدينة المحاصرة فعليًا بين محور صلاح الدين جنوبًا مع مصر، ومحور موراغ الفاصل بين رفح ومدينة خان يونس شمالًا.
يكمن الخطر الحقيقي في تحويل مدينة رفح إلى منطقة خيام معزولة ومخصصة لإيواء النازحين، ومصدر لتوزيع المساعدات تحت إشراف جيش الاحتلال، في أنه سيؤدي إلى فرز الفلسطينيين أمنيًا، وإعطاء الاحتلال ذريعة لاعتقال من يريد تحت وطأة الحاجة الماسة للمساعدات، فضلًا عن المعاناة الإنسانية الهائلة التي ستطال جميع سكان القطاع المنتشرين في الوسط والشمال.
من جانب آخر، يهدف هذا التصور إلى إقصاء الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ومنعها من القيام بدورها الإغاثي والإنساني.
الأمر الأكثر خطورة، يتمثل في قيام الاحتلال بتنفيذ سيناريو قصف هذه المنطقة المكتظة بالمدنيين، ومن ثم دفعهم بالقوة للتوجه نحو الأراضي المصرية في سيناء.
2- إيفاد رئيس الموساد ديفيد برنيع إلى الدوحة، وإرسال وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر إلى القاهرة:
إلا أن هذه اللقاءات لم تسفر على ما يبدو عن نتائج ملموسة، حيث بقي الطرف الإسرائيلي متمسكًا بموقفه الرافض لوقف الحرب على غزة، وهو ما أشار إليه رئيس وزراء قطر وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، خلال مؤتمره الصحفي مع وزير خارجية تركيا هاكان فيدان في الدوحة، عندما أكد أن حركة حماس قدمت مقترحًا وشروطًا، إلا أن نتنياهو يرفض هذه الشروط، ويريد فقط الأسرى، ولكنه لا يمتلك رؤية واضحة لنهاية الحرب على غزة.
يشير ذلك إلى أن نتنياهو أرسل مبعوثيه إلى الدوحة والقاهرة بهدف تخفيف الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة عليه، واستهلاك الوقت والطاقة دون الوصول إلى حل نهائي للأزمة.
الحرب والانتخابات
في ظل هذا الانسداد الحاصل في مسار المفاوضات، سربت وسائل الإعلام الإسرائيلية على لسان مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، أن الحرب ستستمر حتى شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم، كما أدلى وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر بتصريح مماثل، مفاده أن الحرب على غزة ستنتهي خلال 12 شهرًا.
هذه التسريبات والتصريحات، إذا صحت، تعني أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يخشى تبعات المستقبل، وهو ما يدفعه إلى الإصرار على استمرار العدوان على غزة حتى قبيل الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المتوقع انعقادها في منتصف العام 2026، وذلك بهدف تحقيق أحد أمرين:
- السعي إلى إلحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية وإجبار الفلسطينيين على الاستسلام، وهو ما سيسمح له بإعلان النصر الكامل والنهائي.
- رسم مستقبل قطاع غزة وفقًا لأهوائه، بدءًا من إعادة احتلال القطاع وحتى تهجير الفلسطينيين، وبغطاء ودعم أمريكي.
وإذا لم يتمكن من تحقيق هدفه بهزيمة الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو الأمر المستبعد بعد هذا الصمود الأسطوري على مدى أكثر من 18 شهرًا، فإنه عندها قد يلجأ إلى المفاوضات لوقف إطلاق النار، وتسويق ذلك أمام الرأي العام الإسرائيلي؛ بادّعاء أن المفاوضات جاءت بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية وكتائب القسام، وأن غزة لم تعد تشكل تهديدًا لإسرائيل، وأنه حقق جميع أهداف الحرب.
وفي كلتا الحالتين، سيوظف أيًا من السيناريوهين لتحقيق مكاسب سياسية في الانتخابات البرلمانية القادمة، إما بإعلان النصر الساحق، أو بادّعاء أنه حقق للرأي العام الإسرائيلي رغبته بوقف الحرب واستعادة الأسرى.
يبدو المشهد معقدًا وملتبسًا إلى حد كبير، نظرًا لصعوبة التنبؤ بمسار ونتائج استمرار العدوان على غزة حتى نهاية العام الجاري، خاصة إذا نجحت المقاومة الفلسطينية في استنزاف جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يعاني من الإرهاق الشديد والنقص في أعداد الجنود، حيث يرفض ما يقرب من 50% من جنود الاحتياط العودة إلى القتال في غزة، ناهيك عن تزايد معارضة الرأي العام الإسرائيلي للحرب، خوفًا من مقتل الأسرى، ولأن الحرب أصبحت مصلحة شخصية لنتنياهو للبقاء في السلطة، وليست حربًا من أجل مصلحة إسرائيل.
يأتي هذا في وقت قد تندلع فيه مواجهات عسكرية جديدة، أو يزداد منسوب التوتر بين إسرائيل وسوريا على خلفية استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ سورية، وتحريضها تيارًا من الدروز على التمرد المسلح على دمشق، ودعمها أي مجموعات انفصالية أخرى؛ حرصًا منها على إضعاف سوريا لضمان بقاء سيطرتها على جنوب سوريا على الأقل، وهو سلوك لا يروق أيضًا لتركيا التي تربط بين أمنها القومي واستقرار سوريا ووحدة أراضيها.
في ظل هذا السياق المتسارع للأحداث في حالة من الغموض في سوريا ولبنان، واليمن الذي يواصل اشتباكه مع القوات البحرية الأمريكية ومساندته لغزة، وإيران التي لا تزال تتفاوض مع واشنطن بشأن برنامجها النووي، وغيرها من الأحداث المتسارعة التي قد تظهر فجأة، يصبح من الصعب على إسرائيل المحتلة التحكم في المآلات والنتائج النهائية، فليس كل من يشعل فتيل الحرب قادرًا على التحكم في مخرجاتها وعواقبها، وإسرائيل ليست استثناءً من هذه القاعدة.